The World Organization for al-Azhar Graduates, Bangladesh Branch
The World Organization for al-Azhar Graduates, Bangladesh Branch
الإسلام دين الوسطية، ولقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الوسطية: جَعْلاً إلهيّا، وليس اختيارًا من خيارات المؤمنين بالإسلام، فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:143].
وقد جعلت هذه الآية الكريمة الوسطية علة وسببًا يترتب عليه اتخاذ الأمة الإسلامية موقع الشهود على الناس، بما فيهم من أمم وشعوب وملل ورسالات وثقافات وحضارات. وذلك التعليل وثيق الصلة بمعنى «الوسطية»، ومعنى «الشهود»؛ فالوسط: هو السَّواء والعدل( )، والعدل هو الشرط المؤهِّل للشهادة والشهود على الناس.
ولأن هذه الأمة الخاتمة قد آمنت بكلِّ النبوات والرسالات والكتب السماوية، كانت وحدها المؤهلة للشهادة على الناس، وعلى تبليغ كلِّ الرسل رسالاتهم إلى أمم هذه الرسالات.
مصطلح الوسطية:
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أنه «لا مُشاحَّة في الألفاظ والمصطلحات»( )، فإن انتفاء هذه «المشاحة» واقف فقط عند استخدام هذه الألفاظ وهذه المصطلحات، أما المضامين والمفاهيم المقصودة من وراء استخدام هذه المصطلحات فإن فيها الكثير من المشاحات، وخاصة عندما تتعدد – وأحيانا تتناقض – المفاهيم المرادة من وراء المصطلح الواحد؛ بسبب تعدد الثقافات والحضارات والفلسفات والمواريث.
وكذلك الحال مع مصطلح «الوسطية»، فإنه يعني في «الفكر السُّوقي»: التَّميُّع وانعدام التحديد وافتقار الموقف ـ الوسطي ـ إلى اللون والطعم والرائحة!
بينما يعني في الفكر الأرِسطي: الفضيلة بين رذيلتين، أي الموقف الثالث الذي هو بمثابة نقطة رياضية ثابتة بين قطبين، مع المغايرة الكاملة بين هذا الموقف الثالث ـ الوسطي ـ وبين هذين القطبين.
ولكن المفهوم الإسلامي للوسطية ليس كذلك، فالوسطية في الإسلام وسطية جامعة، تمثل موقفًا ثالثا بين القطبين المتقابلين والمتناقضين، لكنها لا تغاير هذين القطبين مغايرة تامة، وإنما تَجمع منهما عناصرَ الحق والعدل؛ لتكوِّن منها وبها هذا الموقف الوسطي الجديد، فهي في حقيقتها رفضٌ للغلوّ الذي ينحاز إلى قطبٍ واحدٍ من هذين القطبين: غلو الإفراط أو غلو التفريط.
فوسطية الإسلام الرافضة للغلو المادي والغلو الروحي هي وسطية لا تغير المادة والمادية، ولا الرُّوح والروحانية كلية، وإنما هي الوسطية الجامعة لعناصر الحق والعدل من المادية والروحانية جميعا، على النحو الذي يوازن توازن العدل بينهما؛ ولذلك فإنها تصوغ الإنسان الوسط: راهب الليل وفارس النهار، الجامع بين الفردية والجماعية، بين الدنيا والآخرة، بين التبتل للخالق والاستمتاع بطيبات وجماليات الحياة التي خلقها الله وسخرها لهذا الإنسان. تحقق الوسطية الكاملة في النبي ﷺ: ولأن النموذج والقدوة والأسوة تنهض بالدور الأول في ميدان التربية والتزكية والصياغة للإنسان والمجتمع والثقافة والحضارة، فلقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون القدوة والأسوة للأمة الوسط: ذلك النبي الأمي الذي جسدت حياته أكمل نموذج لوسطية إسلامية جامعة يمكن أن يتحقق في دنيا الناس.
لقد صنعه الله على عينه ليكون نموذج هذه الوسطية الإسلامية وقدوتها وأسوتها، فهو بشَر يوحَى إليه، بشر تجوز عليه كل عوارض البشرية، يولد ويمرض ويألم ويموت، وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يأتي من الخوارق إلا ما آتاه الله، وفي ذات الوقت ـ ولأنه يوحى إليه ـ فلقد مثَّل رباط الأرض بالسماء، وحلقة الوصل بين عالم الشهادة وعالم الغيب.
وبعبارة الشيخ محمد عبده: «فإن روحه ﷺ ممدودة من الجلال الإلهي بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية، فهو يشرف على الغيب بإذن الله، ويعلم ما سيكون من شأن الناس فيه، وهو في مرتبته العُلوية على نسبة من العالمين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهو في الدنيا كأنه ليس من أهلها، وهو وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها، يتلقى من أمر الله ويحدّث عن جلاله بما خفي عن العقول من شؤون حضرته الرفيعة بما يشاء أن يعتقدَ العباد فيه، معبرا عنه بما تحتمله طاقة عقولهم ولا يبعد عن متناول أفهامهم، ثم هو بعد ذلك بشر يعتريه ما يعتري سائر أفراد البشر مما لا يقدح في مقتضيات رسالته»( ).
لقد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، فكان على خلق عظيم، وجَمعت حياته وسياساته بين الاجتهاد الإنساني، وبين الوحي المسدِّد للاجتهاد والحاكمِ فيما لا يستقل به الاجتهاد، فهو ﷺ العابد المتبتّل الذي يقف بين يدي مولاه حتى تتورم قدماه، وهو الذي جعل رهبانيته ورهبانية أمته الجهاد في سبيل الله، حتى لقد كان الفارسَ المقاتل الذي يحتمي به الفرسان إذا اشتد القتال، وازداد البأس، وحمي الوطيس، واحمرت الحدق، فلا يكون أحد أقرب إلى الأعداء منه ﷺ. ومع ذلك كان أشد حياء من العذراء في خدرها، ولقد جعل الحياء في شريعته شعبة من شعب الإيمان. كان أشجع الناس وأحلم الناس، كانت عبادته مجاهدة وجهادا، وكان جهاده عبادة وتقربا إلى الله. وفي قدوته وأسوته جمعت الوسطية بين قوة الصبر والمصابرة، وبين ذروة الخشوع والخضوع في الصلاة، ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة:45].
وكذلك جمعت قدوته وأسوته بين الرفق الرفيق بالإنسان ـ مطلق الإنسان ـ والحيوان والنبات والبيئة ـ بما في ذلك الجماد ـ لأنها جميعها حية تسبح بحمد خالقها ـ حتى وإن لم نفقه تسبيحها ـ وبين الغضب الشديد لدين الله وحرمات الله وحدود الله.
كما جمعت قدوته وأسوته بين زهد الغَنِيّ في متاع الدنيا وبين عشق الجمال الذي خلقه الله وبثه زينة في هذا الكون الجميل، فكانت وصاياه باختيار الاسم الحسن والاستمتاع باللهو الحلال والاستعاذة بالله من كآبة المنظر. كما جمعت وسطيته بين تفضيل الحياة مع المساكين وبين الرقة والزينة، حتى لقد جاء في صفاته وشمائله أنه «لم تكن يد ألين من يده، ولا ريح أطيب من ريحه، أطيب رائحة من المسك، فكان وجهه يبرق من السرور، وكأن عرقَه اللؤلؤ». (رواه الإمام أحمد). كما جمعت وسطيته بين تبتل العابد عندما يعتكف بالمسجد وبين الزينة حتى أثناء الاعتكاف، فكان يناول رأسه لعائشة رضي الله عنها وهي في حجرتها لترجِّل له شعره ﷺ. وهكذا جسَّدت القدوة والأسوة النبوية بهذه الوسطية الإسلامية الجامعة نموذج الإنسان الكامل الذي امتاز وتميز عن غلو الإفراط والتفريط.
تمثل الوسطية الإسلامية في منهج أهل السنة والجماعة:
ولقد تهذبت به ﷺ نفوس أصحابه الكرام، حتى كانت سلوكياتهم ومعاملاتهم للخلق في تمام الاعتدال والقصد، فورثوا وسطية الإسلام الحقة التي أرسى قواعدها رسول الله ﷺ. وقد تمثلت وسطية الإسلام بعد ذلك في منهج جامع رصين، سماه المسلمون بـ «منهج أهل السنة والجماعة»، إذ مَثَّل هذا المنهج ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه عقيدة وعملًا وحالًا.ولقد أيَّد الله تعالى هذا المنهج القويم ـ على مَرِّ العصور ـ بعدد من كُبريات المدارس العِلمية في حواضر الإسلام، عمِلت على تحريره وتنقيحه ورَدِّ الشُّبه التي تثار من حوله، وعلى تخريج العلماء الأجلّاء النُّبلاء، وحمَلت على عاتقها أمانة الهداية العامّـة، والدعوة إلى الله تعالى، فاستمسكت بميزان الاعتدال، وجسدت وسطية الإسلام تجسيدًا فعالا، تلك الوسطية التي تمثل نسيج الإسلام الساري في أوامره ونواهيه، وقيمه ومقاصده، تلك الوسطية التي كتب الله تعالى بواسطتها للإسلام الخلود والبقاء، والشهادة على البشرية جمعاء.
لقد كان استمساك تلك المدارس بميزان الاعتدال، وتجسيده الفعال للوسطية الإسلامية، تلك الوسطية التي تمثل نسيج الإسلام الساري في أوامره ونواهيه، وقيمه ومقاصده، تلك الوسطية التي كتب الله تعالى بواسطتها للإسلام الخلود والبقاء، والشهادة على البشرية جمعاء( ).بيد أن وسطية الإسلام التي مثلتها مدارس الأمة العلمية لم تكن مجرد دعوى عريضة أو ادعاء أجوف، بل كانت ذات تجليات رئيسة تجاه القضايا الخطيرة الكبرى في الإسلام، تمثلت في المحافظة على الأركان الثلاثة الرئيسة، التي تمثل بدورها المعالم الواضحة لوسطية الإسلام، متمثلة في منهج أهل السنة والجماعة، وهي: عقيدة أهل السُّنة والجماعة، وفقه أهل السنة والجماعة، وسلوك أهل السنة والجماعة.