استقر في أذهان كثير من الناس أن الجهاد شرع بعد هجرة النبي ﷺ إلى المدينة. لكن الحقيقة العلمية والتاريخية ليست كذلك، فقد حفل العهد المكي بالجهاد كما حفل به العهد المدني، وتحدث القرآن المكي عن الجهاد كما تحدث القرآن المدني.
والسبب في هذا التصور الذي استقر في أذهان الكثيرين، أنهم حصروا الجهاد في معناه القتالي ـ ولا شك أن مقاتلة المشركين شرعت بعد الاستقرار في المدينة ـ وهو ما أزال سمة الجهاد عن كثير من أنواعه، بل عن أهم أنواعه.
إن أهم أنواع الجهاد، بل المقصود الحقيقي، والمعنى الأساسي له، هو ذاك الذي شرع بمكة، من مواجهة الرسول ﷺ وأصحابه للمشركين بدعوتهم إلى الحق، وثباتهم عليه، وصبرهم على الأذى في سبيل التبصير بكتاب الله تعالى والتعريف به.
وهذا ما تحدث عنه القرآن المكي، كما قال تعالى في سورة الفرقان: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [52]. أي: جاهدهم بالقرآن وحججه، كما قال ابن عباس وغيره. وتأمل في تسمية القرآن له: جهادا كبيرا، لتدرك مركزه المتميز بين أنواع الجهاد.
وكذا قال الله تعالى في سورة النحل: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [110].
ومما يؤكد هذه الحقيقة في معنى الجهاد: قول النبي ﷺ: «أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر» [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه]. وقوله ﷺ: «أفضل الجهاد: أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله تعالى» [رواه الترمذي وابن حبان].
فالجهاد بهذا المعنى الذي استقر في مكة، هو المصدر الأساسي لما قد تقرع عنه بعد ذلك من أنواع الجهاد، بل هو أشبه بالجذع الثابت من الشجرة في سائر الظروف والأحوال، بينما بقية الأنواع ـ ومنها النوع القتالي ـ أشبه بالأغصان التي تأتي وتذهب بين الحين والآخر، طبقا للظروف والأسباب.
ولكن العجب ممن يحمل الجهاد فقط على معناه القتالي، وإذا ذكر بحديث النبي ﷺ الذي ذكرناه، وظَّفه أيضًا للجهاد القتالي، فلم يفهم من كلمة الحق في الحديث إلا المعنى الزجري الباعث على التربص والمنازعة والقتال!!